سورة هود - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}
واعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين ذكر فيهما مثالاً مطابقاً ثم اختلفوا فقيل: إنه راجع إلى من ذكر آخراً من المؤمنين والكافرين من قبل، وقال آخرون: بل رجع إلى قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} [هود: 17] ثم ذكر من بعده الكافرين ووصفهم بأنهم لا يستطيعون السمع ولا يبصرون، والسميع والبصير هم الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم.
واعلم أن وجه التشبيه هو أنه سبحانه خلق الإنسان مركباً من الجسد ومن النفس، وكما أن للجسد بصراً وسمعاً فكذلك حصل لجوهر الروح سمع وبصر، وكما أن الجسد إذا كان أعمى أصم بقي متحيراً لا يهتدي إلى شيء من المصالح، بل يكون كالتائه في حضيض الظلمات لا يبصر نوراً يهتدي به ولا يسمع صوتاً، فكذلك الجاهل الضال المضل، يكون أعمى وأصم القلب، فيبقى في ظلمات الضلالات حائراً تائهاً.
ثم قال تعالى: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} منبهاً على أنه يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصمم، وإذا كان العلاج ممكناً من الضرر الحاصل بسبب حصول هذا العمى وهذا الصمم وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان.
واعلم أنه قد جرت العادة بأنه تعالى إذا ورد على الكافر أنواع الدلائل أتبعها بالقصص، ليصير ذكرها مؤكداً لتلك الدلائل على ما قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة، وفي هذه السورة ذكر أنواعاً من القصص.


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)}
القصة الأولى: قصة نوح عليه السلام:
اعلم أنه تعالى قد بدأ بذكر هذه القصة في سورة يونس وقد أعادها في هذه السورة أيضاً لما فيها من زوائد الفوائد وبدائع الحكم، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي {أني} بفتح الهمزة، والمعنى: أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير مبين، ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام وهو قوله: {أني لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فلما اتصل به حرف الجر وهو الباء فتح كما فتح في كان، وأما سائر القراء فقرؤا {إِنّي} بالكسر على معنى قال: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.
المسألة الثانية: قال بعضهم: المراد من النذير كونه مهدداً للعصاة بالعقاب، ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب، والأولى أن يكون المعنى أنه نذير للعصاة من العقاب وأنه مبين بمعنى أنه بين ذلك الإنذار على الطريق الأكمل والبيان الأقوى الأظهر، ثم بين تعالى أن ذلك الإنذار إنما حصل في النهي عن عبادة غير الله وفي الأمر بعبادة الله لأن قوله: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} استثناء من النفي وهو يوجب نفي غير المستثنى.
واعلم أن تقدير الآية كأنه تعالى قال ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بهذا الكلام وهو قوله: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.
ثم قال: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} فقوله: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} بدل من قوله: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ} ثم إنه أكد ذلك بقوله: {إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} والمعنى أنه لما حصل الألم العظيم في ذلك اليوم أسند ذلك الألم إلى اليوم، كقولهم نهارك صائم، وليلك قائم.


{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}
اعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوته بثلاثة أنوع من الشبهات.
فالشبهة الأولى: أنه بشر مثلهم، والتفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة لجميع العالمين.
والشبهة الثانية: كونه ما أتبعه إلا أراذل من القوم كالحياكة وأهل الصنائع الخسيسة، قالوا ولو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111].
والشبهة الثالثة: قوله تعالى: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} والمعنى: لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل فإذا لم نشاهد فضلك علينا في شيء من هذه الأحوال الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات، فهذا خلاصة الكلام في تقرير هذه الشبهات.
واعلم أن الشبهة الأولى لا تليق إلا بالبراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق، أما الشبهتان الباقيتان فيمكن أن يتمسك بهما من أقر بنبوة سائر الأنبياء، وفي لفظ الآية مسائل:
المسألة الأولى: الملأ الأشراف وفي اشتقاقه وجوه:
الأول: أنه مأخوذ من قولهم مليء بكذا إذا كان مطيقاً له وقد ملؤا بالأمر، والسبب في إطلاق هذا اللفظ عليهم أنهم ملؤا بترتيب المهمات وأحسنوا في تدبيرها.
الثاني: أنهم وصفوا بذلك لأنهم يتمالؤون أي يتظاهرون عليه.
الثالث: وصفوا بذلك لأنهم يملؤون القلوب هيبة والمجالس أبهة.
الرابع: وصفوا به لأنهم ملؤوا العقول الراجحة والآراء الصائبة.
ثم حكى الله تعالى عنهم الشبهة الأولى، وهي قولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} وهو مثل ما حكى الله تعالى عن بعض العرب أنهم قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وهذا جهل، لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدليل والبرهان والتثبت والحجة، لا بالصورة والخلقة، بل نقول: إن الله تعالى لو بعث إلى البشر ملكاً لكانت الشبهة أقوى في الطعن عليه في رسالته لأنه يخطر بالبال أن هذه المعجزات التي ظهرت لعل هذا الملك هو الذي أتى بها من عند نفسه بسبب أن قوته أكمل وقدرته أقوى، فلهذه الحكمة ما بعث الله إلى البشر رسولاً إلا من البشر.
ثم حكى الشبهة الثانية وهي قوله: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} والمراد منه قلة ما لهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أيضاً جهل، لأن الرفعة في الدين لا تكون بالحسب والمال والمناصب العالية، بل الفقر أهون على الدين من الغنى، بل نقول: الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف تجعل قلة المال في الدنيا طعناً في النبوة والرسالة.
ثم حكى الله تعالى الشبهة الثالثة وهي قوله: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} وهذا أيضاً جهل، لأن الفضيلة المعتبرة عند الله ليست إلا بالعلم والعمل، فكيف اطلعوا على بواطن الخلق حتى عرفوا نفي هذه الفضيلة، ثم قالوا بعد ذكر هذه الشبهات لنوح عليه السلام ومن اتبعه {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} وفيه وجهان:
الأول: أن يكون هذا خطاباً مع نوح ومع قومه، والمراد منه تكذيب نوح في دعوى الرسالة.
والثاني: أن يكون هذا خطاباً مع الأراذل فنسبوهم إلى أنهم كذبوا في أن آمنوا به واتبعوه.
المسألة الثانية: قال الواحدي: الأرذل جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته ورجل رذل الثياب والفعل. والأراذل جمع الأرذل، كقولهم أكابر مجرميها، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أحاسنكم أخلاقاً» فعلى هذا الأراذل جمع الجمع، وقال بعضهم: الأصل فيه أن يقال: هو أرذل من كذا ثم كثر حتى قالوا: هو الأرذل فصارت الألف واللام عوضاً عن الإضافة وقوله: {بَادِىَ الرأى} البادي هو الظاهر من قولك: بدا الشيء إذا ظهر، ومنه يقال: بادية لظهورها وبروزها للناظر، واختلفوا في بادي الرأي وذكروا فيه وجوهاً: الأول: اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه، والثاني: يجوز أن يكون المراد اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي وما احتاطوا في ذلك الرأي وما أعطوه حقه من الفكر الصائب والتدبر الوافي.
الثالث: أنهم لما وصفوا القوم بالرذالة قالوا: كونهم كذلك بادي الرأي أمر ظاهر لكل من يراهم، والرأي على هذا المعنى من رأي العين لا من رأي القلب ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه كان يقرأ {إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ رَأْىَ العين}.
المسألة الثالثة: قرأ أبو عمرو ونصير عن الكسائي {بادئ} بالهمزة والباقون بالياء غير مهموز فمن قرأ {بادئ} بالهمزة فالمعنى أول الرأي وابتداؤه ومن قرأ بالياء غير مهموز كان من بدا يبدو أي ظهر و{بَادِىَ} نصب على المصدر كقولك: ضربت أول الضرب.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9